سرديات قصيرة
ــــــــــــــــــــــــــ
نحن نزرع الشوك !
بقلم
أحمد عبد اللطيف النجار
كاتب عربي
نعم نحن نزرع الشوك عندما نتخلى عن أولادنا بسلبيتنا تجاههم !
نحن نزرع الشوك عندما نقصر في حق أولادنا وكأنهم لا ينتمون لنا !
نحن نزرع الشوك عندما يحتل الأبناء آخر مرتبة في تفكيرنا وهمومنا !
نحن نزرع الشوك عندما يهون علينا الأبناء وتهون صلة الدم والقربى التي هي أقوى الصلات !
نحن نزرع الشوك في طريق أولادنا بدلاً من أن نزرع الورود والرياحين ونمهد لهم الطريق ونذلل لهم صعاب الحياة وما أكثرها في زماننا المُر !
نحن نحصد الشوك الذي زرعناه في نفوس أبنائنا بإهمالنا
لهم وعدم رعايتهم !
عزة فتاة يتيمة ، مسكينة جاءتني ذات يوم حزينة ملتاعة تقول : بدأت مشكلتي حينما طلّق أبي أمي بسبب التدخل المستمر من جانب عماتي في حياتهم .
ساعتها حملتني أمي علي كتفها طفلة صغيرة عمرها عامان فقط ، ولجأت إلي بيت أختها بعد أن طردها أبي سامحه الله ، فرحّبت خالتي وزوجها بها أكرمهم الله ، وعشنا معهم عامان كاملين رحلت بعدهم أمي عن الحياة مكسورة النفس ، حزينة ، وأصبحت يتيمة لا أعرف لي أم غير خالتي ولا أب غير زوجها الذي وجدت نفسي أناديه بكلمة بابا منذ بدأت أتعلم الكلام .
كان زوج خالتي نعم الأب لي ، لا يفرق بيني وبين أولاده ، بل يميزني عنهم في المعاملة رحمة بظروفي وكوني يتيمة الأب والأم .
كان زوج خالتي يعمل موظف حكومي ، يخرج من عمله ليعمل عملاً آخر يستعين به علي مواجهة الحياة ، وتساعده خالتي بالعمل خيّاطة بقدر جهدها كي تلبي بعض احتياجاتنا .
رغم ذلك فقد أدخلاني أحسن المدارس وعرضاني علي أكبر الأطباء كلما مرضت ، وكانوا يحرصان علي إقامة حفل عيد ميلادي كل سنة وحفل نجاحي في المدرسة كلما
نجحت وكنت انجح بتفوق بفضل الله .
كل ذلك يحدث وأبي لم يدر عني شيئا ولا يحاول أن يراني ولو مرة واحدة !
فقط يكتفي بإرسال عشرين جنيهاً كل شهر مع أحد أصدقائه حتي لا يضطر للحضور ورؤيتي .
مضت السنوات عليّ سريعة وانتقلت من مرحلة لمرحلة حتي التحقت بكلية العلوم ، كل ذلك ومبلغ العشرين جنيه الذي يرسله أبي كما هو لا يزيد مليم واحد ولا يتأثر بأي عوامل اقتصادية !
خلال كل هذه السنوات لم أر أبي نهائياً وكأنه وهم وسراب ، وعلمت أنه قد تزوج ثلاث مرات وفشلت كل زيجاته ، وأنه يعيش حاليا مع شقيقتيه اللاتي لم يتزوجن ، وأنه كتب كل ما يملك لشقيقتيه وأبناء أخيه !
لم أهتم لذلك فقد تعودت علي غيابه عن حياتي !
ذات يوم فوجئت بخالتي تدخل عليّ حجرة النوم مضطربة وتدعوني إلي مقابلة زائر في الصالون !
اكتشفت بعد قليل أن هذا الزائر الغريب هو أبي الذي جاء بعد عشرين سنة ليراني وأنا في الثانية والعشرين من عمري وعلي وشك التخرج من الجامعة !
يا إلهي ...! أخيراً تذكرتني أبي !!
رغم المفاجأة فقد فرحت لأن مشاعر الأبوة قد تحركت في
قلبه فجأة وجاء كي يطمئن علي ابنته الوحيدة !
لكن فرحتي لم تطل ، فقد صُدمت بعد دقائق لأنه لم يأت لرؤيتي وإنما ليأخذني لأعيش معه ومع عماتي العوانس !
ساعتها ماتت الابتسامة علي شفتي ، ونظرت إلي زوج خالتي ملتاعة ، فطمأنني ، ثم راح يرجو أبي أن يتركني أعيش معهم عارضا عليه أن يتوقف عن إرسال العشرين جنيها .
ساعتها سألني أبي عن رأيي ، فلم أتردد لحظة واحدة بأن أصارحه بأنني أريد أن أواصل حياتي مع أسرة خالتي ، فنهض أبي غاضبا وهو يكاد يضربني قائلا : أنني يجب أن أعيش معه ، وحين رأي عدم استجابتي انصرف وهو يتوعدني بأن حسابي مع ربي كبير وعسير !
غادر أبي البيت وتركنا ونحن جميعا نبكي ، أنا وخالتي وزوجها وأخوتي أبناء خالتي .
بعد أن هدأت العاصفة قليلاً أخبرني زوج خالتي أنه لن يتخلى عني ولن يقصر معي حتي آخر العمر .
الآن أنا حائرة وخائفة من عقاب الله مثلما قال أبي لأنني رفضت أن أغادر بيت خالتي !
أبي لا يحتاجني كما يحتاج أي أب ( طبيعي ) لابنته بدليل أنه لم يرني منذ عشرين سنة ، لكنه يحتاج لي كخادمة ، كي أخدمه هو وشقيقتيه بعد أن تعذر عليه
الزوج للمرة الرابعة !
فهل أترك أهلي الحقيقيين الذين تحملوا الكثير والكثير من أجل تربيتي ؟!
ابن خالتي يحبني ويرغب في الزواج مني وخالتي وزوجها سعيدين بذلك ، فهل أصدمهم بالانتقال للعيش مع ابي الذي أنكرني وأنا وليد صغير لا حول له ولا قوة ؟!
إن ضميري مرتاح جدا إلي اختياري لأسرة خالتي ، لكن هل حقاً سوف يحاسبني الله علي ذلك كما توعدني أبي ؟!
//// لا يا ابنتي ، بل بل سوف يحاسب الله عز وجل أبيكِ حسابا عسيرا علي تقصيره تجاهك وتخليه عنكِ طوال عمرك كله !
من يحاسب من ؟!!
الأب الظالم الذي ترك فلذة كبده هكذا بمنتهي السلبية ولم يرها طوال عشرين سنة !!
أم الابنة المظلومة التي ظلمها أب جاحد أناني انساق وراء شهواته وغزواته الزوجية الفاشلة ؟!!
من يزرع الشوك لا حق له في قطف زهور الحياة وشم أريجها الطاهر !
الأبوة في معناها الحقيقي ليست انتماء بالاسم أو بشهادة الميلاد فقط ، لكنها انتماء بالحب والتضحية والعطاء والرعاية والمسئولية !
أين أبيك من كل ذلك ؟!!
أباكِ الحقيقي هو زوج خالتك الذي كافح كفاح الأبطال لتربيتك وإعالتك وعاملك كواحدة من بناته ، بل وميزكِ عنهم رحمة بك وبظروفك .
وأمكِ الحقيقي هي خالتك التي تحملت مسئولية تربيتك كاملة بعد وفاة أمك الحقيقية مقهورة مطرودة من بيت أبيكِ الظالم .
مثل ذلك الأب نموذج شاذ لكل الآباء المحترمين !
هنيئا لك يا ابنتي بأسرة خالتك وزوجها الطيب ، ذلك الرجل الشهم النبيل الذي حفظك بالرعاية والصيانة طوال ربع قرن من عمر الزمان ، والذي أحسن تربيتك دون أن ينتظر الجزاء من أحد سوى رب العالمين .
يا له من أب رحيم ، زرع الله في قلبه الرحمة تجاهك وعوضك عن الحرمان الذي أذاقه لك أباكِ الحقيقي !
فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟!!!
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟!!!
هل جزاء الإحسان إلا الإحسان ؟!!!
أحمد عبد اللطيف النجار
أديب عربي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق