الأربعاء، 4 أبريل 2018

مجلة سماء الأبداع للشعر والأدب الألكترونية كتب الشاعر أحمد عبداللطيف النجار قصة بعنوان الرومانسية العاقلة

سرديات قصيرة
ــــــــــــــــــــــــــ
 
                   الرومانسية العاقلة
                                بقلم 
                     أحمد عبد اللطيف النجار
                                    أديب عربي

الرومانسية تلك الكلمة الجميلة الناعمة ، تعني لكل منا المشاعر الفياضة والقلوب الحانية التي تستشعر الحب في كل شيء حولها ، وهي إن تحولت  إلي وهم وسراب تصير رومانسية خادعة ، وإن صارت واقعية عقلانية تلتمس التفكير العقلاني  تصبح حينئذ رومانسية عاقلة  يحسب أصحابها خطواتهم بتعقل ويهتدون في ذلك بهدي  خاتم الأنبياء والمرسلين صلي الله عليه وسلم  عندما قال ( اعقلها وتوكل ) أي استعمل العقل والتفكير المنطقي السليم قبل الإقدام علي أي عمل حتي لا تندم  وقت لا ينفع الندم .
بدور امرأة من نساء بلدي جاءتني ذات يوم فرحة مسرورة تقول : منذ عشرين عام كنت طالبة في بداية
المرحلة الجامعية ، علي قدر كبير من التفوق والجمال ، وكانت تربطني بزميلاتي وزملائي  علاقة تسودها الثقة والاحترام .
في أحد الأيام تقدم مني أحد زملائي  قائلا أنه يحمل لي مشاعر خاصة وأنني فتاة أحلامه التي يتمني أن يرتبط بها إلي الأبد .
كانت تلك أول مرة في حياتي يعبّر لي شاب عن هذه المشاعر ، إلا إنني اعتذرت عن الارتباط به لأننا في سن صغيرة لا تسمح لنا بالحكم الصائب علي مشاعرنا .
توالت الأيام ونسيت زميلي مصطفي نهائيا ، ثم تعرضت بعدها لقصة غريبة مع زميل آخر نجح في استثارة مشاعري وتعاطفي معه بقصة مؤلمة عن يتمه وكفاحه لإعالة أسرته ، وصدّقته فيما قال ، ثم فوجئت بزميلي مصطفي ينصحني بالابتعاد عن هذا الشاب لأنه عابث يشيع بين أصدقائه أنه  مرتبط بي وأنه ليس يتيم كما يقول ويصاحب أصدقاء السوء وله مغامرات  وعلاقات مشبوهة كثيرة .
ذُهلت مما سمعت وأصابني ما يشبه الصدمة العصبية ، وعدت لبيتي ، فرميت شرائط ألاغاني العاطفية وروايات الحب في صندوق القمامة ، وقطعت صلتي به نهائيا ، ولم اعد أطيق مجرد رؤيته عن بُغد ، واقتنعت تماما بأن الحب
وهم كبير والرومانسية خزعبلات يتحايل بها بعض الشبان علي الفتيات لتحقيق إغراضهم الدنيئة ، وقررت ألا أتزوج إلا زواج العقل وحده .
مضت  سنوات الدراسة  وفي العام الأخير جاءتني زميلة لي تبلغني أن زميلي مصطفي ما زال متمسكا بي وأنه قد اشتري دبلة ذهبية وحفر بداخلها اسمي  وتاريخ اليوم ويلبسها في أصبع يده اليمني ،ويسألني أن انتظره حتي يتخرج ويعمل ثم يتقدم لي .
ساعتها ثرت في وجه زميلتي تلك وأكدت لها أنني لا أريد الارتباط بأي إنسان وواجهت مصطفي بقسوة وأبلغته أنني لن ارتبط بأحد ونصحته بأن يوجه اهتمامه لدراسته بدلا من اهتمامه بتك الخزعبلات !
لم اكتف بذلك وإنما سخرت من دبلته التي يلبسها بطريقة قاسية ، فلم يزد عن أن احني رأسه ثم انصرف صامتا وهو في قمة الخجل !
مرت الأيام وتخرجت في كليتي وابتعدت عن مجتمع الجامعة  ، وفي احدي الحفلات العائلية رآني شاب من أقارب أمي وأعجب بي ، ذلك هو عاصم  الذي تقدم لطلب يدي  ووافق عليه أهلي لأنه ميسور الحال  ووافقت عليه  بناء علي موافقتهم .
تزوجت عاصم  وأنا لا أحس تجاهه سوي بمشاعر القبول
العادية ، آملة أن يحدث التقارب بيننا بعد الزواج .
مضي علي زواجنا ثلاث سنوات دون أن أنجب ، وبدأ القلق يسيطر علي أسرة زوجي وينعكس علي حياتنا ، وبدأت أمه تحثنا علي إجراء الفحوص الطبية  وأجريناها وازداد القلق بعدها ، إذ أثبتت قدرة زوجي الكاملة علي الإنجاب ، في حين كشفت عن ضعف قدرتي عليه !
مضت علينا السنوات ونحن نطوف علي الأطباء دون جدوي وبدأ زوجي يطلب مني السماح له بالزواج من أخري كي ينجب وبدأت أعصابه تتوتر ويسب ويلعن اليوم المشئوم الذي رآني فيه !
كثرت المشاحنات بيننا وفترات الخصام ، وفي احدي هذه النوبات طلبت منه الطلاق لكي يتزوج غيرى ويستريح ، فوافق بشرط التنازل عن مؤخر الصداق ، وطلقني بالفعل بعد عشر سنوات زواج .
وجدت نفسي في الثالثة والثلاثين من عمري احمل لقب مطلقة ، وعرفت مدى بشاعة كلمة مطلقة في مجتمعنا ، وشغلت نفسي بالعمل ؛ فبحثت عن عمل مناسب ركزت فيه كل همي وبدأت أتناسي  به أحزاني .
ذات يوم زارتني زميلتي قريبة زميلي القديم مصطفي صاحب الدبلة الذهبية وتطرق الحديث إلي زملاء زمان وألمحت لي أن قريبها قد عاد من الخارج بعد رحلة عمل طويلة حقق خلالها نجاحا كبير ثم عاد وبدأ مشروعا في مدينتنا .
ساعتها سعدت بنجاحه واستقرار حياته ، وبعد شهور أُجريت لي عملية الزائدة الدودية ؛ فزارتني صديقتي هذه وزوجها وفوجئت بزميلي مصطفي معهما ، فتأثرت بوفائه وحرصه علي مجاملتي في مرضي ، ثم خرجت من المستشفي ، وبعد أيام أبلغتني صديقتي أن مصطفي يريد أن يتقدم لي من جديد ، ساعتها اختلطت مشاعر الدهشة بالفرحة وسألتها متعجبة : بعد كل هذه السنوات .. وأنا مطلقة ؟!! ... وهل يعرف حكاية الإنجاب ؟ !
ودُهشت حين قالت لي أنه يعرف كل شيء عني  طوال السنوات الماضية وأنه لم يرتبط  حتي الآن ولم يتزوج ، بل ولم يقرر الاستقرار في مدينتنا  وبدء مشروعه إلا بعد أن علم بطلاقي !
ساعتها وجدت دموع التأثر تطفر من عيني ولم اعرف ماذا أقول ، وتعجبت من الدنيا ومما تفعله بنا ، ولم يمض يومان علي حديثنا إلا ووجدت مصطفي في بيتنا علي غير موعد يطلب يدي ، بل ويهددني بأنه لن يغادر بيتنا إلا وأنا في عصمته ، فإذا بينبوع المشاعر يتفجر داخلي ويحول مشاعر الزمالة الي مشاعر من نوع آخر !
بدأنا نستعد للزواج وأصرّ مصطفي علي ان يقيم لي فرح
كبير في ارقي الفنادق السياحية وكأنني فتاة بكر لم تتزوج من قبل !
قضينا شهر العسل في احد الفنادق وأدركت وقتها كم  كنت غبية حين حرمت نفسي من هذا الإنسان الطيب المتدين رقيق المشاعر دافئ القلب .
لم تمض أسابيع علي زواجنا حتي اقنعني زوجي برقة ودون ضغوط علي ارتداء الحجاب والانتظام في الصلاة ، وبعد عام من زواجنا  اصطحبني زوجي إلي الرحلة المباركة لأداء فريضة الحج معا ، وبعد عام آخر فاجأني  باصطحابي معه في رحلة إلي سويسرا للسياحة والاستمتاع بنعمة الله علينا ، وهناك اصطحبني لزيارة طبيب كبير وأخبرنا الطبيب أن الأمل في إنجابي ضعيف ولكنه ليس مستحيل !
لم أُصدم لأنني كنت قد سلمت أمري لله ، وبعد ستة شهور عدنا إلي نفس الطبيب وأُجريت لي جراحة أخري ثم عدنا إلي مصر ، وتابعت العلاج تحت إشراف أطباء بلدي ؛ فإذا بي اشعر وانا في التاسعة والثلاثين من عمري بشيء غريب ومثير يتحرك في أحشائي !!
وإذا بمن قال للشيء كن فيكون يأذن لي بأن ألد مولودي الجميل وأنا في الأربعين من عمري ، فسبحانك ربي تعز من تشاء وتذل من تشاء وأنت علي كل شيء قدير .
إنني اسمع كثيرا آيات الذكر الحكيم ، فيخفق قلبي حين اسمع قوله تعالي ( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ) وقوله سبحانه وتعالي ( وعسي ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) وقد عرفت من فيض القرآن لماذا لم يرد لي الله أن أنجب من زوجي الأول خلال عشر سنوات زواج ، وأدركت أن ما شقيت به حينذاك كان لحكمة خفية هي ان يتحقق أملي وحلمي في الأمومة والحياة مع الإنسان الذي ملك عليّ حياتي والذي ضللت الطريق إليه في بداية الشباب .
الآن عدت لحالتي الطبيعية وايماني الحقيقي بوجود الحب وأهميته في حياة كل إنسان ، وعدت للاستماع إلي الموسيقي العاطفية وتوقفت تماما عن إنكار الحب والرومانسية ، وكيف اكفر بهما وقد حولا حياتي من الشقاء للسعادة ؟!
تلك كانت أحزان بدور وأفراحها ، وقد رأينا كيف أنها تعلمت الدرس جيدا من تجربة الألم التي عاشتها ، وتلك هي مشيئة الله  في كل الأحوال ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما ) 30 /  سورة الإنسان .
بدور هنا نموذج جديد وتطبيق عملي لحكمة طاغور شاعر وفيلسوف الهند الكبير التي يقول فيها ( أن سعي الحياة الدائم يصحح أخطائها ) وما أكثر أخطاء  البشر
وأخطاء الحياة ، وما أكثر من يتمنون لو طال بهم العمر ليشهدوا تصحيح أخطائهم أو يحصدوا جوائزهم وفي القلب بقية من استعداد للاستمتاع بالحياة !
تلك هي رحمة الله بعباده إذ يعينهم علي ما يشقيهم بفيض من رحماته ويعدهم بجوائز الصابرين الراضين باقدارهم ، وقديما قال حكماء الهند ( كل ما تأتي به الحياة خير وكل شئ مكروه سيصبح مألوف بعد حين ) أي أنه يجب علينا أن نتقبل أقدارنا بغير ضجر أو سخط ، ثم نسعي بقدر استطاعتنا لتغيير ما نستطيع تغييره من أوضاع تسبب لنا الشقاء والتعاسة ، وهذا بالتحديد ما فعله زوجها مصطفي ، فقد تقبل أقداره بلا حسرة ولا جزع ولا بكاء علي الأطلال ، ثم تمسك بحلمه شبه المستحيل في الزواج ممن اختارها قلبه وساعدته الظروف وتقلبات الدهر لتحويل الحلم إلي حقيقة  ( وكل شيء لمن صبر كما يقولون ) .
وتلك هي ايضا بالتحديد الرومانسية العاقلة التي تسترشد بالحكمة  والعقل ، وهي نفسها تلك الرومانسية كلمة عظيمة تعني الحب والإنسانية والمُثل العليا واحترام المشاعر السامية والفضيلة وحب الخير والرحمة والحلم بحياة أكثر خيرية وأقل شراً والقدرة علي تذوق جمال الطبيعة  والجمال الروحاني والفن الراقي  والأدب الرفيع .
أحمد عبد اللطيف النجار
   أديب عربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق