الجمعة، 30 مارس 2018

مجلة سماء الأبداع للشعر والأدب الألكترونية كتب الشاعر أحمد عبداللطيف النجار قصة بعنوان وجه أخي ج2

سرديات قصيرة
ـــــــــــــــــــــــــ
              وجه أخي !
                                  بقلم
                      أحمد عبد اللطيف النجار
                               كاتب عربي
                            (( الجزء الثاني  ))

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ذهبت خالتي  بالفعل وعادت تروي لأمي كيف استقبلها عبد المحسن بالدموع  وتقبيل يديها لأنه لم يكن يتوقع حضورها  ، وكيف احتضن زوج خالته بفرحة كبيرة ، وأن أسرة خطيبته ناس طيبين رغم فقرهم ، وأنهم يحبونه ويحترمونه ، وكيف حضر أصدقائه من القاهرة  خصيصاً لحضور الفرح يزفونه بالسيارات وهو يضحك  سعيداً والدموع  لا تفارق عينيه !!
وأن الحاج عبد الستار صاحب المحل الذي يعمل فيه هو الذي رتبّ له  الزفة وأعطاه نقوطاً كبيراً مكافأة له علي نشاطه وأمانته .
والله يا صاحبي سمعت كل ذلك وأحسست بالندم يلسعني  علي
موقفي منه !
لكنني تظاهرت بتجاهل الموضوع وعرفت من زوجتي أنه سيقيم مع أسرة خطيبته  بعد الزواج إلي أن يجد شقة .
مضت الأيام وعاد عبد المحسن لزيارة أمه وشقيقاته يحكي لهن عن خطيبته وعمله وحياته  هناك ، وحكى لهن أيضاً أن آلام جنبه عاودته بسبب ساعات العمل الطويلة ، وأنه ذهب إلي المستشفي الأميري في دمياط   وعالجه الأطباء وشفي والحمد لله ، ومضى عامان آخران والموقف بيننا لم يتغير ، وجاء ذات مرة في زيارته المعتادة للأسرة فلاحظت عليه الإرهاق ، فسألته عما به ، فروى لي أنه أحس بالتعب وذهب للمستشفي وأنهم أجروا له فحوصاً طبية أتعبته أكثر ، فانخلع قلبي وأمسكته من يده وذهبت به إلي طبيب كبير ، فطلب أشعات وتحاليل  ، وحاول  عبد المحسن الاعتذار لأنه مضطر للسفر ، فأقسمت عليه بالله ألا يسافر إلا بعد إجراء الفحوصات والتحاليل الطبية ، وعدنا للطبيب  فوصف له العلاج وطلب منه الراحة  التامة .
رجعنا للبيت  وطلبت منه ألا يعود إلي دمياط  نهائياً  وأن يستريح في البيت ، وأعلنت للجميع أنني سأنفق علي علاجه  كل ما أملك وسأدعو خطيبته وأسرته لزيارته هنا ، فابتسم عبد المحسن  في ضعف وقال لي :  أنه لابد أن يعود ويعمل لأنه مدين للحاج عبد الستار   بجزء من قيمة الشبكة  ولبعض أصدقائه هناك ، فطلبت منه البقاء وسأسدد ديونه  مهما كانت وألححت عليه ، لكنه أمسك يدي وقبّلها وشكرني بحرارة راجياً أن أتركه يسافر لأن حياته أصبحت هناك ، وسوف يواظب علي العلاج ، فوافقت مرغماً وأوصلته للقطار وأعطيته نقوداً رفض أن يأخذها قائلاً لي أنه أخذ حقه وزيادة بلقمته وطعامه خلال سنوات التعليم  ، وقال أيضاً إذا كان لي عندك
حق فأعطه لأمك وشقيقاتي ، ثم تحرك القطار وصورة أخي عبد المحسن وهو يبتسم في ضعف لا تفارقني !
عدت إلي البيت مهموماً ولم أنم الليل ، وفي الصباح كان أول شيء فعلته هو أن اتصلت تليفونياً بالحاج عبد الستار الذي يعمل معه عبد المحسن لأطمئن عليه وأبلغه أنني سأسدد دينه عنده وأرجوه أن يرفض عودته للعمل  ويعيده للقاهرة حتى تتحسن صحته ، فما أن سمعني حتي قال لي واجماً : كنت سأتصل بك الآن فوراً ، انتظرنا نحن قادمون إليك بعد ثلاث ساعات ،، البقاء لله ... البقاء لله !
ساعتها صرخت من أعماقي  وسقطت السماعة من يدي وجاء الجيران مفزوعين وأعادوني  للبيت ، وبعد ساعات  وصل جثمان أخي الحبيب عبد المحسن  وبدأت رحلة الوداع الأخيرة  وحولي أصدقاؤه  وأحباؤه الذين طالما كرهتهم وأسأت الظن بهم يولولون  ويصرخون كالثكالى  يتدافعون لحمل صاحبهم !!
وفي المساء وقفت  في العزاء منهاراً أصافح الأيدي ولا أدرى بها ، وجاء أصدقاؤه فما أن وضع أولهم يده في يدي حتى بكيت كالطفل ، فشجع ذلك أحدهم علي أن يقول لي :  لقد مضى كل شيء وراح ولكني أشهد بالله العظيم أمامك أن شقيقك عبد المحسن كان مثال الأمانة والشهامة والأخلاق ، وأن يده لم تمتد إلي الحرام ولم يرتكب معصية واحدة ، وإننا كنا إخوة متحابين في الله  وفي الخير لا في الشر ، وأن أقصى  ما فعلناه مما كنت تعيبه علينا أننا كنا ندخن في مرحلة المعهد ، لكننا لم نعرف الخمر ولا المخدرات كما كنت تتصور ، وعاش أخوك ومات ولم يدخن سيجارة واحدة ، لكنها يا حاج عبد القادر ألسنة السوء لا تدع الناس في حالها !!
فسألته : هل كرهني لما فعلته معه ؟ ... فقال : لم يذكرك مرة بسوء وأنت تقسو عليه وكان يقول لنا دائماً لا تظلموه ، فلقد حمل الهم
صغيراً وهو أخي وأبي الذي لم أر غيره ، ويكفيه أنه ستر شقيقاتي ، أما أنا فرجل وأستطيع أن أتحمل .
انقضت أيام العزاء وبعد  رحيل  عبد المحسن خيّم الحزن علي بيتنا واستقر فيه ، وبدأت أشعر باكتئاب شديد أفقدني حماسي للعمل وبدأت أشعر باتهام صامت في عيون أمي وشقيقاتي بأني ظلمت أخي وقبرته ، مع أنني يعلم الله لم أرد سوي مصلحته  حتى وإن أسأت التصرف .
استقر الفتور في علاقتي بأمي وشقيقتي الكبرى سعاد التي كانت أكثر شقيقاتي عطفاً  علي أخي الراحل عبد المحسن ، أما خالتي التي تحدتني  بالذهاب إلي حفل  عُرسه ، فقد حاولت مصالحتها بعد رحيله فانهالت عليّ بالاتهام والتجريح  وزادت  معاناتي، وسافرت إلي دمياط  وقابلت الحاج عبد الستار وشكرته وسددت له ديون أخي الحبيب يرحمه الله ، فرفض بكل إصرار قائلاً أنها كانت هدية منه لشاب كريم  وملاك في هيئة بشر وليست ديناً عليه .
والآن يا صاحبي ساءت حالتي النفسية كثيراً وأصحو كل ليلة من نومي عدة مرات  وقد توقف تنفسي وقلبي منقبض حتي وصلت إلي مرحلة الاختناق ، وفي كل ليلة يجيئني أخي الراحل في المنام وأراه عابساً وهو الذي لم أره ألا مبتسماً في حياته حتى حين كان يغلبه الدمع !
وذهبت للطبيب النفسي الذي أعطاني بعض الأدوية ، أنا الآن أواظب علي العلاج ، لكني لا أنام الليل ، وفقدت الأشياء قيمتها عندي ، فلم تعد عندي رغبة في النجاح أو الثراء ، وأسأل نفسي كثيراً : ما معني كل ذلك وأنا لم أنجب أولاداً ولا بنات ولم يعد لي أخ ؟!!
متي يبتسم لي وجه أخي حين تزورني روحه في الليل ؟!
أين أجد راحة قلبي وضميري ؟ ...أين ...أين ؟!
&& آه يا صاحبي من ظلم الإنسان لأخيه الإنسان ، لقد تصورت أنك بقسوتك علي أخيك ( اليتيم ) فانك بذلك تحسن تربيته وتعرف مصلحته !!
ذلك هو منطق القلوب القاسية المتحجرة  عندما تتسبب بقسوتها في تحطيم شخصية أقرب الناس إليها !!
رغم كل شيء فقد كان أخيك الراحل مثالاً حياً للرجولة والشهامة الحقيقية ، وذلك عندما آثر الانسحاب الإيجابي  من حياتك وجبروتك كي يعيش هناك بعيداً في دمياط حياة جديدة وكفاح شريف !
أنت يا صاحبي باعترافك قلت كنت أحيانا تغار من صموده وكبريائه  ، وأنت أيضا لم تقصر في علاجه وعرضه علي اكبر الأطباء ،، لكنه قضاء الله الذي لا راد لقضائه .
لكن أكثر ما لفت انتباهي في مأساتك هي روح الضجر والسخط  التي لمستها في كل أفعالك منذ وفاة أبيك  ، فقد تحملت المسئولية بامتعاض علي حد قولك !
وأعلنت وقلبك  (( يتمزق ))  أنك ستخلف أباك في تجارته ، وذلك بالتحديد جوهر المشكلة ، فالإنسان الحُر الواثق من ربه ومن نفسه يقبل الأمر الواقع بنفس مطمئنة راضية ويضحي من أجل الآخرين وهو في قمة سعادته ، ذلك أنه تعود البذل والعطاء دون أن ينتظر المقابل وراحة القلب عنده مبعثها الوحيد هو راحة الضمير !
تأكد أن ما يحدث لك من أحلام مزعجة ورؤيتك لوجه أخيك الراحل عابساً ، فإنما هي تراكمات لشعورك بالذنب تجاهه ولسوء معاملتك له وقسوتك عليه أحياناً كثيرة بلا أي مبرر !!
وتأكد أيضاً أن الشيء الوحيد الذي يرضيه في قبره هو أن تعامل أمك وشقيقاتك معاملة حسنة بلا ضجر ولا تأفف !
ابدأ بنفسك وأكثر من قراءة القرآن الكريم  وسوف تجد فيه الدواء
الشافي من كل داء بإذن الله ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا )  82  سورة الإسراء .
                                       أحمد عبد اللطيف النجار
                                               كاتب عربي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق